الجمعة، 11 مايو 2012

الموازنة بين حديث الامام ورأيه الأصيل

لم يكن الامام الذهبي بعيداً عما أشاعه بعض المنتسبين إلى علم الحديث من كون الامام الأعظم ذا رأي مذموم وقياس ملثوم ، لكنه أراد أن ياتي البيوت من أبوابها ، فلم يتقبل - وهو الناقد العظيم - آراء النقاد السابقين بأعتبارها مسلمات لا يمكن ردها، أو الطعن فيها. بل أجرى عملية فرز دقيقة مبنية على أسس علمية متينة أستحضر فيها الوقوف بين يدي الله تعالى، والسؤال عن كل صغيرة أوكبيرة في حق رجل أرتضاه الملايين من أبناء الأمة المحمدية إماماً لهم، وهو أهل لأن يقتدى به ويؤخذ عنه.
 وسأوجز خلاصة مواقفه في النقاط التالية:
أولاً: وصف الذهبي الإمام أبا حنيفة بأنه ((فقيه الملة، عالم العراق)).

وقال: ((وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى)).
وقال أيضـاً: الأمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام وهذا أمر لا شك فيه:
     وليس يصح في الأذهان شيء                     إذا احتاج النهارإلى دليل

    وهذا الكلام بحد ذاته تنكيل بكل من سولت له نفسه أن يشوه صورة الفقه النعماني بدعاوى فارغة نصب الخطيب البغدادي نفسه ناقداً لها ومروجاً لمفرداتها، ومثبتاً في كتابه مقولة منسوبة إلى الإمام أحمد بن حنبل إنه سئل عن مالك فقال:  حديث صحيح ورأي ضعيف، وسئل عن الأوزاعي فقال: حديث ضعيف ورأي ضعيف، وسئل عن أبي حنيفة فقال: لا رأي ولا حديث، وسئل عن الشافعي فقال: حديث صحيح ورأي صحيح. (تاريخ بغداد)0
    وإذا كان أبو حنيفة - لا رأي ولا حديث – فكيف يقول عنه الإمام يحيى ابن معين المتوفي سنة 233هـ : ما رأيت أحداً أقدمه على وكيع، وكان يفتي برأي أبي حنيفة، وكان يحفظ حديثه كله، وكان قد سمع من أبي حنيفة حديثاً كثيراً.

   ثانيـاً: عزز الإمام الذهبي ثناؤه على رأي الإمام وفقهه بما أورده من مأثورات أتفق على مضامينها الأئمة الكبار من علماء الحجاز والعراق المعروفين بتقدمهم في حفظ الأحاديث والآثار، فنقل عن الإمام سليمان بن مهران الأعمش التابعي الجليل المتوفي سنة148هـ انه سئل عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت الخزاز، وأظنه بورك له في علمه.
وطرز ترجمته بقول حفص بن غياث القاضي المتوفى 177هـ ((كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر لا يعيبه إلا جاهل)) وبما ذكره بالسند عن الشافعي انه قال: قيل لمالك: هل رأيت أبي حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها من ذهبا لقام بحجته.
وقول عبد الله بن المبارك : ((أبو حنيفة أفقه الناس)).
وشهادة يحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة 198هـ ، التي قال فيها: (( لا نكذب الله ، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله)).
ونحن لا نغمط الخطيب البغدادي حقه فقد ذكر مثل هذا في فقه أبي حنيفة وزاد عليه روايات تطفح بالثناء على هذا الجانب المهم في حياة الإمام، فقد روي عن اسرئيل بن يونس المتوفى 162هـ، انه قال: ((نعم الرجل النعمان، ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه، واشده فحصاً عنه، واعلمه بما فيه من الفقه))، وروي عن عبد الله بن داود الخريبي المتوفى 207هـ، أنه قال: ((يجب على أهل الإسلام أن يدعوا الله لأبي حنيفة في صلاتهم قال: وذكر حفظه عليهم السنن والفقه)).
ونقل عن علي بن المديني قال: كان يزيد بن الزريع يقول : وذكر أبو حنيفة – هيهات طارت بفتياه البغال الشهب.
وقول مسعر بن كدام المتوفى 153هــ (( من جعل أبا حنيفة بينه وبين الله رجوت أن لا يخاف ولا يكون فرط في الأحتياط لنفسه)).
وقول معمر بن راشد المتوفى 153هـ : ما أعرف رجلاً يحسن يتكلم بالفقه أو يسعه أن يقيس ويشرح لمخلوق النجاة في الفقه، أحسن معرفة من أبي حنيفة ولا أشفق على نفسه من أن يدخل في دين الله شيئاً من الشك من أبي حنيفة.
فما أجل وأجمل هذه المقولات المنصفة الواردة على تلك الألسنة المؤمنة الواعية، وما أسلم منهج الخطيب لو عض عليها بالنواجذ ولم يتبعها بالمطاعن والمغامز.

ثالثاً: نقل الإمام الذهبي عن وكيع بن الجراح المتوفى سنة 196هـ أنه قال:
((سمعت أبا حنيفة يقول : البول في المسجد أحسن من بعض القياس)).
   وانها لوقفة رائعة من الذهبي يجيب فيها على تساؤلات من ظنوا أن القياس رأس مال أبي حنيفة لا يقدم عليه شيئاً، ولا يعتمد في الأخذ به ركنا أو شرطاً، فهو يثبت لهم على لسان هذا الإمام أن النص سند مأمون، أما القياس فالأخذ به من غير ضوابط خاسر ومغبون، وهذا ما تؤكده المواقف العملية لفقهه وأستنباطه.
   فقد قال الإمام ابن حزم المتوفى سنة 463هـ (( جميع الحنفية مجمعون على ان مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من الرأي )).
   وقال : قال أبو حنيفة : الخبر الضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من القياس مع وجوده)).
   وجاء شيخ الإسلام ابن تيميه المتوفى سنة 728هـ فأكد ما قاله ابن حزم وقال : (( من ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم وتكلم إما بظن وإما بهوى)).
   وأيد ابن القيم المتوفى 751هـ هذا النقل عن الحنفية في مذهب إمامهم وبين انه بني مذهبه على ذلك، فقدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعيف، وشرط في إقامة الجمعة المصر، والحديث فيه كذلك، وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير معروفة، فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحاية على القياس والرأي قوله وقول الإمام أحمد.
    وقال الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852هـ (( وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وامثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ومن القهقهة في الصلاة وغير ذلك)).

ولا أحب أن اختم هذا المطلب قبل أن أورد ما رواه الإمام الطحاوي عن بكار بن قتيبة سمعت أبا عاصم النبيل قال: ((كنا عند أبي حنيفة بمكة، فكثر عليه أصحاب الحديث وأصحاب الرأي ، فقال: ألا رجل يذهب إلى صاحب الربع – المنزل – حتى يفرق عنا هؤلاء)).
   وأنا أقول هل هذا إلا برهان ساطع على إن الإمام جمع الحسنيين فازدحم عليه الآخذون من الفريقين ؟ فرحم الله الإمام الذهبي ، لقد ثبت الموازنة بين حديث الإمام ورأيه الأصيل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق