الجمعة، 11 مايو 2012

التحمل والأداء بين الشيوخ والتلاميذ




اعتاد الإمام الذهبي أن يبدأ تراجمه بعبارات تومئ إلى أبرز ما أمتاز به المترجم في حياته العلمية، ثم يفصح عما تحمل هذه الكلمات من دلائل على مشاركة هذا العلم في أهم الميادين.
     وإذا أردنا أن نوظف العبارات التي أنتقاها في مطلع ترجمة الإمام الأعظم على أثبات مكانته الحديثية فسنجد ما يأتي:
     أولاً : قوله ((ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة)) والمتبع الواعي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ...))رواه البخاري، يدرك مدى تعلق، من ولد في هذا الجيل المبارك، وتنسم عطر النبوة القادم مع أهله، بالعلم النبوي المتمثل بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته الخلقية والخلقية، لاسيما إذا وضعنا هذا في سياق ما أورده الإمام الذهبي هنا بسنده إلى إسماعيل بن حماد حفيد الإمام انه قال: (( ولد جدي سنة ثمانين، وذهب ثابت (أبوه) إلى علي (رضي الله عنه) وهو صغيرفدعا له بالبركة فيه، وفي ذريته، ونحن نرجو من الله أن يكون أستجاب ذلك لعلي (رضي الله عنه) فينا))، (سير أعلام النبلاء).

ثانياً: حينما سرد الإمام الذهبي شيوخ النعمان في مرحلة التحمل كانت القائمة مستوعبة لكبار المحدثين في ذلك العصر من أئمة التابعين في جميع الأمصار الإسلامية، فمن مكة المكرمة عطاء بن أبي رباح، وهو أكبر شيخ له وأفضلهم على ما قال، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير المكي وغيرهم، ومن المدينة المنورة نافع مولى عبد الله بن عمر، وأبو جعفر الباقر، وعبد الله بن دينار، وابن شهاب الزهري، بل ومالك بن أنس وهو أصغر منه بثلاثة عشر عاماً لكنه عالم المدينة ومحدثها، ومن الكوفة الإمام عامر الشعبي، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، والحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، ومنصور بن المعتمر، وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم، ومن البصرة قتادة بن دعامة السدوسي، وخلق سواهم، (سير أعلام النبلاء).
     ومعنى هذا ان أبا حنيفة رحمه الله تعالى تلقى من هؤلاء علمهم وحديثهم وهم ممن قال عنهم الإمام علي بن المديني ت234 ((دار علم الثقات على ستة فكان في الحجاز الزهري وعمرو بن دينار وبالبصرة قتادة ويحيى بن أبي كثير وبالكوفة أبو أسحاق والأعمش)).
    ثالثاً: بعد ما تقدم قال الإمام الذهبي: (( وعني بطلب الآثار وأرتحل في ذلك))، وفي هذا تأكيد لما قلناه من ناحيتين:
أولاهما:العناية بطلب الآثار، وهذا شأن جميع المحدثين وفي الطليعة منهم كبارهم ومن هنا قال الإمام مكحول ت113: (( لا يؤخذ العلم إلا ممن شهد له بالطلب)) وقال الإمام أحمد في الثناء على عبدالله بن المبارك: ((لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه)).
ثانيتهما: الأرتحال في طلب الحديث، وهذه سنة متبعة فارق العلماء بسببها الأهل والوطن، وقطعوا فيها الفيافي والقفار وجابوا المدن والبلدان من أجل الإحاطة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والسماع من حفاظه حتى قال الإمام سعيد بن المسيب ((إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد))، وقال الإمام يحيى بن معين ((أربعة لا تؤنس منهم رشدا، حارس الدرب، ومنادي القاضي، وابن المحدث، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث)).

رابعاً: لم يفت الإمام الذهبي أن يعرج على بعض الحكايات التي لفقت لتجعل أبا حنيفة منذ فتوته ناشئاً على الأمتعاض من دراسة الحديث والأشتغال بحفظه، وقد أوردها بالسند بينه وبين الخطيب البغدادي ثم بين الخطيب وأبي حنيفة انه قال:  لما اردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم وأسأل عن عواقبها فقيل: تعلم القرآن، فقلت: إذا حفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد فيقرا عليك الصبيان والأحداث، ثم لا يلبث ان يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو مساويك فتذهب رئاستك .. قال: قلت: فإن سمعت الحديث: وكتبته حتى لم يكن في الدنيا من هو أحفظ مني؟ إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك هؤلاء الأحداث والصبيان، ثم لم تأمن أن تغلط، فيرموك بالكذب، فيصير عاراً عليك في عقبك، فقلت: لاحاجة لي في هذا.
وهنا أنتفض أبو عبد الله الذهبي ليصدر حكمه على هذه القصة التي سكت عنها الخطيب فقال: الآن كما جزمت إنها حكاية مختلفة، فان الامام أبا حنيفة طلب الحديث وأكثر منه في سنة مائة وبعدها ولم يكن إذ ذاك يسمع الحديث الصبيان ، هذا أصطلاح وجد بعد ثلاثمائة سنة ، بل كان يطلبه كبار العلماء ، بل لم يكن الفقهاء علم بعد القرآن سواه ولا كانت دونت كتب الفقه أصلاً .
ثم قال: بعد بضعة اسطر: قاتل الله من وضع هذه الخرافة. وإني لأشم من بين سطور هذه التعليقات الذهبية أن كاتبها لا يحمل للخطيب حشد هذه الأكاذيب لكنه ما أراد أن يسير على طريقته في التعامل مع عظماء الأمة بما لا يليق ذكره ولا يؤمن وزره.
خامسأً: خص الامام الذهبي جهود الامام أبي حنيفة في أداء الحديث النبوي الشريف بعبارات يفقهها كل من مارس أسلوبه ومنهجه فقد قال : ((حدث عنه خلق كثير))، فهذه الكلمات الأربع تتهاوى عندها التهم الباطلة والمزاعم الجاهلة فهو لم يقل – أخذ عنه – ولا – تعلم على يديه – ولا – تفقه به- ولكن – حدث – ليلقم من يشكك بمنزلته في الحديث حجراً، ولا يبقي لدعواه الكاذبة أثراً ثم قوله – خلق كثير- يعطي صورة مشخصة للامام وحوله الناس بجموعهم الهائلة قد نزحوا من كل فج عميق لينالوا شرف التلمذة الحديثية على امام الدنيا في ذلك الزمان أبي حنيفة النعمان ثم ينتقل بعد هذا ليورد مصدره في أسماء هؤلاء التلاميذ فلا ينتخب كتب طبقات الحنفية أو الفقهاء ولكنه يقول : (( ذكر منهم شيخنا أبو الحجاج في تهذيبه هؤلاء على المعجم )) وشيخه أبو الحجاج هو الإمام المزي ، وكتابه هو – تهذيب الكمال في أسماء الرجال – يعلم كل مشتغل بعلم الحديث إنه المرجع الأول في بيان أسماء الشيوخ والتلاميذ من المحدثين ،  ولا يحق لأحد أن يتجاهله في هذا المقام ، واللافت للنظر أن أبا الحجاج أختار ثمانية وتسعين تلميذاً من جميع القبائل والأمصار فمنهم الخراساني والنيسابوري والبلخي والترمذي والجرجاني  والرقي والمروزي والأصبهاني والصاغاني والسمرقندي  والمصري والحجازي والصنعاني والكوفي والبصري  والواسطي ، ومنهم المجلي والعنزي والعوفي والطائي والتميمي والنخعي والحماني والتنوري والقرشي والعنقزي والقرني والعنبري والشيباني والوهبي والأنصاري والسدي  والفزاري والسكري .
وكل هذه الأنساب إلى القبائل والبلدان أثبتها المزي ومن بعده الذهبي ليقطع ألسنة القائلين بإن بضاعته كانت مسجاة في الحديث .
والأهم من هذا كله إن الأعلام الذين نالوا شرف التلمذة على يديه ، وحدثوا عنه – والتحديث أمانة لا يقوم بها إلا اهلها – هؤلاء النخبة برآء مما نسبه الخطيب البغدادي إلى قسم من أكابرهم في أسانيد مطعون فيها أنهم جهلوا أبا حنيفة في السنة وعلومها فوصفوه بأوصاف تخجل الأقلام من تسويدها وترصيفها فلعمري كيف يحدث اولئك الأئمة المشهورون عن رجل يشككون بعدالته وضبطه ، وبه يغمزون ؟ أيعقل أن يحدث عبدالله بن المبارك عمن ينقل الخطيب البغدادي انه قال فيه : ((أضربوا على حديث أبي حنيفة)) ، أو قال: (( كان أبو حنيفة يتيماً في الحديث))، أو قال : (( من كان عنده كتاب حيل أبي حنيفة يستعمله ، أو يفتي به فقد بطل حجه، وبانت منه أمرأته، فقال مولى ابن المبارك : يا أبا عبد الرحمن ما ادري وضع كتاب الحيل إلا شيطان، فقال ابن المبارك: الذي وضع كتاب الحيل أشر من الشيطان)).

وهل يحدث أبو أسحاق الفيزاري عن أبي حنيفة وقد ساله يوماً عن مسألة فأجاب فيها : فقلت له: إن هذا يروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيه كذا وكذا، فقال: حك هذا بذنب خنزير، أم هل يصدق أن يحدث علي بن عاصم عمن يقول فيه- بزعم الخطيب- حدثنا أبو حنيفة بحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: لا اخذ به، قلت: عن النبي (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال: لا آخذ به. أم هل يحدث عبد الوارث بن سعيد عن أبي حنيفة الذي يقول عنه – فيما روى الخطيب - : ذكر لأبي حنيفة قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((أفطر الحاجم والمحجوم))، فقال هذا سجع.
وهل يحدث الفضل بن موسى السيناني عن ابي حنيفة وهو القائل: سمعت ابا حنيفة يقول: من اصحابي من يبول قلتين، يرد على النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا كان الماء قلتين لم ينجس)).
ولماذا يحدث وكيع بن الجراح عن ابي حنيفة وهو القائل بما أسنده الخطيب البغدادي إليه ((وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث)).

إلى ذلك من الأخبار الساقطة التي لملمها الخطيب ونسبها إلى من يشهد الله تعالى انهم بريئون منها قائلاً: ((والمحفوظ عند نقلة الحديث عن الأئمة المتقدمين، وهؤلاء المذكورين منهم، في ابي حنيفة خلاف ذلك، وكلامه فيه كثير لأمور شنيعة حفظت عليه، متعلق بعضها باصول الديانات، وبعضها بالفروع، نحن ذاكروها بمشيئة الله، ومعتذرون إلى من وقف عليها، وكره سماعها، بأن أبا حنيفة عندنا مع جلالة قدره أسوة غيره من العلماء الذين دونا ذكرهم في هذا الكتاب، وأوردنا أخبارهم، وحكينا أقوال الناس فيهم على تباينها)).
والحق أن هذا التصرف مذهل غريب، فلم الانشغال بكذب الطاعنين ؟ ثم الأعتذار عن هذا الخطأ المبين؟.

الموازنة بين حديث الامام ورأيه الأصيل

لم يكن الامام الذهبي بعيداً عما أشاعه بعض المنتسبين إلى علم الحديث من كون الامام الأعظم ذا رأي مذموم وقياس ملثوم ، لكنه أراد أن ياتي البيوت من أبوابها ، فلم يتقبل - وهو الناقد العظيم - آراء النقاد السابقين بأعتبارها مسلمات لا يمكن ردها، أو الطعن فيها. بل أجرى عملية فرز دقيقة مبنية على أسس علمية متينة أستحضر فيها الوقوف بين يدي الله تعالى، والسؤال عن كل صغيرة أوكبيرة في حق رجل أرتضاه الملايين من أبناء الأمة المحمدية إماماً لهم، وهو أهل لأن يقتدى به ويؤخذ عنه.
 وسأوجز خلاصة مواقفه في النقاط التالية:
أولاً: وصف الذهبي الإمام أبا حنيفة بأنه ((فقيه الملة، عالم العراق)).

وقال: ((وأما الفقه والتدقيق في الرأي وغوامضه، فإليه المنتهى)).
وقال أيضـاً: الأمامة في الفقه ودقائقه مسلمة إلى هذا الإمام وهذا أمر لا شك فيه:
     وليس يصح في الأذهان شيء                     إذا احتاج النهارإلى دليل

    وهذا الكلام بحد ذاته تنكيل بكل من سولت له نفسه أن يشوه صورة الفقه النعماني بدعاوى فارغة نصب الخطيب البغدادي نفسه ناقداً لها ومروجاً لمفرداتها، ومثبتاً في كتابه مقولة منسوبة إلى الإمام أحمد بن حنبل إنه سئل عن مالك فقال:  حديث صحيح ورأي ضعيف، وسئل عن الأوزاعي فقال: حديث ضعيف ورأي ضعيف، وسئل عن أبي حنيفة فقال: لا رأي ولا حديث، وسئل عن الشافعي فقال: حديث صحيح ورأي صحيح. (تاريخ بغداد)0
    وإذا كان أبو حنيفة - لا رأي ولا حديث – فكيف يقول عنه الإمام يحيى ابن معين المتوفي سنة 233هـ : ما رأيت أحداً أقدمه على وكيع، وكان يفتي برأي أبي حنيفة، وكان يحفظ حديثه كله، وكان قد سمع من أبي حنيفة حديثاً كثيراً.

   ثانيـاً: عزز الإمام الذهبي ثناؤه على رأي الإمام وفقهه بما أورده من مأثورات أتفق على مضامينها الأئمة الكبار من علماء الحجاز والعراق المعروفين بتقدمهم في حفظ الأحاديث والآثار، فنقل عن الإمام سليمان بن مهران الأعمش التابعي الجليل المتوفي سنة148هـ انه سئل عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت الخزاز، وأظنه بورك له في علمه.
وطرز ترجمته بقول حفص بن غياث القاضي المتوفى 177هـ ((كلام أبي حنيفة في الفقه أدق من الشعر لا يعيبه إلا جاهل)) وبما ذكره بالسند عن الشافعي انه قال: قيل لمالك: هل رأيت أبي حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها من ذهبا لقام بحجته.
وقول عبد الله بن المبارك : ((أبو حنيفة أفقه الناس)).
وشهادة يحيى بن سعيد القطان المتوفى سنة 198هـ ، التي قال فيها: (( لا نكذب الله ، ما سمعنا أحسن من رأي أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله)).
ونحن لا نغمط الخطيب البغدادي حقه فقد ذكر مثل هذا في فقه أبي حنيفة وزاد عليه روايات تطفح بالثناء على هذا الجانب المهم في حياة الإمام، فقد روي عن اسرئيل بن يونس المتوفى 162هـ، انه قال: ((نعم الرجل النعمان، ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه، واشده فحصاً عنه، واعلمه بما فيه من الفقه))، وروي عن عبد الله بن داود الخريبي المتوفى 207هـ، أنه قال: ((يجب على أهل الإسلام أن يدعوا الله لأبي حنيفة في صلاتهم قال: وذكر حفظه عليهم السنن والفقه)).
ونقل عن علي بن المديني قال: كان يزيد بن الزريع يقول : وذكر أبو حنيفة – هيهات طارت بفتياه البغال الشهب.
وقول مسعر بن كدام المتوفى 153هــ (( من جعل أبا حنيفة بينه وبين الله رجوت أن لا يخاف ولا يكون فرط في الأحتياط لنفسه)).
وقول معمر بن راشد المتوفى 153هـ : ما أعرف رجلاً يحسن يتكلم بالفقه أو يسعه أن يقيس ويشرح لمخلوق النجاة في الفقه، أحسن معرفة من أبي حنيفة ولا أشفق على نفسه من أن يدخل في دين الله شيئاً من الشك من أبي حنيفة.
فما أجل وأجمل هذه المقولات المنصفة الواردة على تلك الألسنة المؤمنة الواعية، وما أسلم منهج الخطيب لو عض عليها بالنواجذ ولم يتبعها بالمطاعن والمغامز.

ثالثاً: نقل الإمام الذهبي عن وكيع بن الجراح المتوفى سنة 196هـ أنه قال:
((سمعت أبا حنيفة يقول : البول في المسجد أحسن من بعض القياس)).
   وانها لوقفة رائعة من الذهبي يجيب فيها على تساؤلات من ظنوا أن القياس رأس مال أبي حنيفة لا يقدم عليه شيئاً، ولا يعتمد في الأخذ به ركنا أو شرطاً، فهو يثبت لهم على لسان هذا الإمام أن النص سند مأمون، أما القياس فالأخذ به من غير ضوابط خاسر ومغبون، وهذا ما تؤكده المواقف العملية لفقهه وأستنباطه.
   فقد قال الإمام ابن حزم المتوفى سنة 463هـ (( جميع الحنفية مجمعون على ان مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث عنده أولى من الرأي )).
   وقال : قال أبو حنيفة : الخبر الضعيف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى من القياس مع وجوده)).
   وجاء شيخ الإسلام ابن تيميه المتوفى سنة 728هـ فأكد ما قاله ابن حزم وقال : (( من ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يتعمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم وتكلم إما بظن وإما بهوى)).
   وأيد ابن القيم المتوفى 751هـ هذا النقل عن الحنفية في مذهب إمامهم وبين انه بني مذهبه على ذلك، فقدم حديث القهقهة مع ضعفه على القياس والرأي، وقدم حديث الوضوء بنبيذ التمر في السفر مع ضعفه على الرأي والقياس ومنع قطع السارق بسرقة أقل من عشرة دراهم والحديث فيه ضعيف، وشرط في إقامة الجمعة المصر، والحديث فيه كذلك، وترك القياس المحض في مسائل الآبار لآثار فيها غير معروفة، فتقديم الحديث الضعيف وآثار الصحاية على القياس والرأي قوله وقول الإمام أحمد.
    وقال الحافظ ابن حجر المتوفى سنة 852هـ (( وقد ترك أبو حنيفة القياس الجلي لرواية أبي هريرة وامثاله كما في الوضوء بنبيذ التمر ومن القهقهة في الصلاة وغير ذلك)).

ولا أحب أن اختم هذا المطلب قبل أن أورد ما رواه الإمام الطحاوي عن بكار بن قتيبة سمعت أبا عاصم النبيل قال: ((كنا عند أبي حنيفة بمكة، فكثر عليه أصحاب الحديث وأصحاب الرأي ، فقال: ألا رجل يذهب إلى صاحب الربع – المنزل – حتى يفرق عنا هؤلاء)).
   وأنا أقول هل هذا إلا برهان ساطع على إن الإمام جمع الحسنيين فازدحم عليه الآخذون من الفريقين ؟ فرحم الله الإمام الذهبي ، لقد ثبت الموازنة بين حديث الإمام ورأيه الأصيل.

الآثار المسندة إليه في علوم الحديث

       كانت للإمام أبي حنيفة مشاركات واسعة في تأصيل قواعد علوم الحديث يجدها المتتبع في عشرات المواضع من كتب المصطلح التي كان أغلب مصنفيها من غير أئمة الحنفية، وفي مقدمتهم العلامة ابن الصلاح والامام النووي وابن كثير والعراقي والسخاوي والسيوطي وغيرهم.
ولما كتب الإمام الذهبي ترجمة أبي حنيفة في السير لم يكن المقام متسعا لإيراد هذه القواعد والتطويل في بيانها، ولهذا أقتصر على أبرز مسألتين تتعلقان بدفع النقد الموجه إليه في حفظ السنة وعلومها، وستكون لي في هذا المطلب وقفتان تثبتان ان الذهبي كما كان متصدياً لإنصاف الإمام الأعظم من ناقديه.
ففي موطن الدفاع الأول أورد مقولة الإمام يحيى بن معين: كان أبو حنيفة ثقة لا يحدث بالحديث إلا بما يحفظه، ولا يحدث بما لا يحفظ.
     ثم أتبع ذلك بما أسنده الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة الأكبر إلى شيخه انه قال: لا ينبغي للرجل أن يحدث إلا بما يحفظه من وقت ما سمعه.
    
    وكأنه يوحي إلى الناقدين بأنهم أغفلوا أو غفلوا عن فهم المراد من اشتراط أئمة الجرح والتعديل في قبول حديث الرجل أن يكون عدلاً ضابطاً، وان الضبط  في نظر أبي حنيفة له ضوابط مشددة عالية الموقع كعلو مقام صاحب الحديث محمد عليه الصلاة والسلام.
   وهذا ما تناقله المصنفون في أثناء الكلام عن أقسام الضبط فهو إما ضبط صدر او ضبط كتاب ، وإذا كان كثير من العلماء يقبلون بالقسمين معاً فإن أبا حنيفة لا يعتد إلا بالقسم الاول حرصاً منه على النقل الموثق المأمون، وخشية على صاحب الكتاب المطمئن على ما كتبه أن يزاد في حديثه وهو لا يدري.  
    وقد حاول بعض المدافعين عن مكانة الإمام في الحديث ان يجعلوا هذا الأشتراط سبباً في قلة ما رواه من احاديث.
    وذكر بعضهم ان سبب هذه القلة هو اشتغاله بالاستنباط.
     والذي أراه ان القول بقلة حديثه دعوى لا تثبت أمام براهين الواقع المستندة إلى قيام جم غفير من طائفة المحدثين والحفاظ المتقنين بجمعه وتدوينه، ومنهم الإمام أبو يوسف المتوفى سنة 182هــ ومحمد بن الحسن المتوفى سنة 187هــ والحسن بن زياد اللؤلؤي المتوفى سنة 240هـ وأبو عبد الله محمد بن أحمد الدوري البغدادي المتوفى سنة 331هـ والحافظ أبو محمد عبد الله بن محمد الحارثي المتوفى سنة 340هـ والحافظ عمر بن الحسن الأشناني المتوفى سنة 349هـ والإمام أبو أحمد عبد الله الجرجاني المعروف بابن عدي المتوفى سنة 365هـ والحافظ أبو الحسن محمد بن المظفر بن موسى البغدادي المتوفى سنة 379هـ والحافظ أبو القاسم طلحة بن محمد البغدادي المتوفى سنة 380هـ والحافظ أبو بكر أحمد بن محمد ابن خالد الكلاعي والحافظ أبو القاسم عبد الله بن محمد العوام السعدي والإمام أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني المتوفى سنة 430هـ والحافظ محمد ابن عبد الباقي الأنصاري المتوفى سنة 536هـ والحافظ أبو عبد الله حسين بن محمد بن خسرو البلخي المتوفى 576هـ ومع هـؤلاء جميعا حماد بن أبي حنيفة النعمان.  
   
   وقد جمع خمسة عشر من هذه المسانيد العلامة أبو المؤيد الخوارزمي المتوفى سنة 665هـ ، وثمة  من أورد مسنداً للماوردي المتوفى سنة 450هـ أيضاً، وهذا أدل دليل لا دليل فوقه على إن الإمام كان من حفاظ الحديث ، ومن المكثرين في روايته، وذلك لأن المحدثين لم يعتنوا بجمع حديث أحد إلا حديث من أكثر من السماع والرواية من المحدثين.
    وفي هذا ما يفند النقولات التي أوهم بإيرادها الخطيب أن أبا حنيفة غير ضابط للحديث ولا يعنيه  شأن الضبط من قريب أو بعيد ، فلا الثقات لما نقله عن سفيان  بن عيينة من طريق مشكوك فيه قال: قدمت الكوفة فحدثتهم عن عمرو بن دينار عن جابر بن زيد – يعني حديث ابن عباس – فقالوا: إن أبا حنيفة يذكر هذا عن جابر ابن عبد الله قال: قلت: لا ، أنما هو جابر بن زيد قال: فذكروا ذلك لأبي حنيفة فقال: لا تبالون ، إن شئتم صيروه عن جابر بن عبد الله ، وإن شئتم صيروه عن جابر بن زيد، وما رواه عن أبي بكر بن أبي داود أنه قال: جميع ما روى أبو حنيفة من الحديث مائة وخمسون حديثاً اخطأ - أو قال غلط في نصفها.
   
   فأين هذا مما رواه الموفق المكي بسنده إلى الحسن بن زياد قال: كان الإمام يروي أربعة آلاف حديث في الحكام، ألفين لحماد والفين لسائر المشيخة وقد أنتخب رحمه الله الآثار من أربعين ألف حديث.

الموقع قيد الأنشاء ...

الخاتمة

بعد هذه الصفحات المتواضعة التي سطرتها في ترجمة الامام الذهبي للإمام أبي حنيفة في كتابه - سير اعلام النبلاء - لم يبق إلا أن ألخص النتائج التي توصلت غليها في النقاط الآتية:
1- كانت ترجمة الذهبي للإمام الأعظم منارة يهتدي بها أولوا العلم، وخيمة يستظل بها أهل الفهم بعد أن ظلم هذا الفقيه المجتهد الأصيل ، والمحدث الناقد النبيل.

((الموقع قـيد الأنشــاء))

المصادر

1- الشيخ محمد ابو زهرة - أبو حنيفة حياته وعصره، آراءه وفقهه، دار الفكر العربي - القاهرة -1977م.
2- وهبي سليمان غاوجي - أبو حنيفة -
((الموقع قيد الأنشاء))