الجمعة، 11 مايو 2012

التحمل والأداء بين الشيوخ والتلاميذ




اعتاد الإمام الذهبي أن يبدأ تراجمه بعبارات تومئ إلى أبرز ما أمتاز به المترجم في حياته العلمية، ثم يفصح عما تحمل هذه الكلمات من دلائل على مشاركة هذا العلم في أهم الميادين.
     وإذا أردنا أن نوظف العبارات التي أنتقاها في مطلع ترجمة الإمام الأعظم على أثبات مكانته الحديثية فسنجد ما يأتي:
     أولاً : قوله ((ولد سنة ثمانين في حياة صغار الصحابة)) والمتبع الواعي لحديث النبي صلى الله عليه وسلم ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ...))رواه البخاري، يدرك مدى تعلق، من ولد في هذا الجيل المبارك، وتنسم عطر النبوة القادم مع أهله، بالعلم النبوي المتمثل بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وصفاته الخلقية والخلقية، لاسيما إذا وضعنا هذا في سياق ما أورده الإمام الذهبي هنا بسنده إلى إسماعيل بن حماد حفيد الإمام انه قال: (( ولد جدي سنة ثمانين، وذهب ثابت (أبوه) إلى علي (رضي الله عنه) وهو صغيرفدعا له بالبركة فيه، وفي ذريته، ونحن نرجو من الله أن يكون أستجاب ذلك لعلي (رضي الله عنه) فينا))، (سير أعلام النبلاء).

ثانياً: حينما سرد الإمام الذهبي شيوخ النعمان في مرحلة التحمل كانت القائمة مستوعبة لكبار المحدثين في ذلك العصر من أئمة التابعين في جميع الأمصار الإسلامية، فمن مكة المكرمة عطاء بن أبي رباح، وهو أكبر شيخ له وأفضلهم على ما قال، وعمرو بن دينار، وأبو الزبير المكي وغيرهم، ومن المدينة المنورة نافع مولى عبد الله بن عمر، وأبو جعفر الباقر، وعبد الله بن دينار، وابن شهاب الزهري، بل ومالك بن أنس وهو أصغر منه بثلاثة عشر عاماً لكنه عالم المدينة ومحدثها، ومن الكوفة الإمام عامر الشعبي، والقاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، والحكم بن عتيبة، وسلمة بن كهيل، ومنصور بن المعتمر، وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم، ومن البصرة قتادة بن دعامة السدوسي، وخلق سواهم، (سير أعلام النبلاء).
     ومعنى هذا ان أبا حنيفة رحمه الله تعالى تلقى من هؤلاء علمهم وحديثهم وهم ممن قال عنهم الإمام علي بن المديني ت234 ((دار علم الثقات على ستة فكان في الحجاز الزهري وعمرو بن دينار وبالبصرة قتادة ويحيى بن أبي كثير وبالكوفة أبو أسحاق والأعمش)).
    ثالثاً: بعد ما تقدم قال الإمام الذهبي: (( وعني بطلب الآثار وأرتحل في ذلك))، وفي هذا تأكيد لما قلناه من ناحيتين:
أولاهما:العناية بطلب الآثار، وهذا شأن جميع المحدثين وفي الطليعة منهم كبارهم ومن هنا قال الإمام مكحول ت113: (( لا يؤخذ العلم إلا ممن شهد له بالطلب)) وقال الإمام أحمد في الثناء على عبدالله بن المبارك: ((لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه)).
ثانيتهما: الأرتحال في طلب الحديث، وهذه سنة متبعة فارق العلماء بسببها الأهل والوطن، وقطعوا فيها الفيافي والقفار وجابوا المدن والبلدان من أجل الإحاطة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، والسماع من حفاظه حتى قال الإمام سعيد بن المسيب ((إن كنت لأرحل الأيام والليالي في طلب الحديث الواحد))، وقال الإمام يحيى بن معين ((أربعة لا تؤنس منهم رشدا، حارس الدرب، ومنادي القاضي، وابن المحدث، ورجل يكتب في بلده ولا يرحل في طلب الحديث)).

رابعاً: لم يفت الإمام الذهبي أن يعرج على بعض الحكايات التي لفقت لتجعل أبا حنيفة منذ فتوته ناشئاً على الأمتعاض من دراسة الحديث والأشتغال بحفظه، وقد أوردها بالسند بينه وبين الخطيب البغدادي ثم بين الخطيب وأبي حنيفة انه قال:  لما اردت طلب العلم جعلت أتخير العلوم وأسأل عن عواقبها فقيل: تعلم القرآن، فقلت: إذا حفظته فما يكون آخره؟ قالوا: تجلس في المسجد فيقرا عليك الصبيان والأحداث، ثم لا يلبث ان يخرج فيهم من هو أحفظ منك أو مساويك فتذهب رئاستك .. قال: قلت: فإن سمعت الحديث: وكتبته حتى لم يكن في الدنيا من هو أحفظ مني؟ إذا كبرت وضعفت حدثت واجتمع عليك هؤلاء الأحداث والصبيان، ثم لم تأمن أن تغلط، فيرموك بالكذب، فيصير عاراً عليك في عقبك، فقلت: لاحاجة لي في هذا.
وهنا أنتفض أبو عبد الله الذهبي ليصدر حكمه على هذه القصة التي سكت عنها الخطيب فقال: الآن كما جزمت إنها حكاية مختلفة، فان الامام أبا حنيفة طلب الحديث وأكثر منه في سنة مائة وبعدها ولم يكن إذ ذاك يسمع الحديث الصبيان ، هذا أصطلاح وجد بعد ثلاثمائة سنة ، بل كان يطلبه كبار العلماء ، بل لم يكن الفقهاء علم بعد القرآن سواه ولا كانت دونت كتب الفقه أصلاً .
ثم قال: بعد بضعة اسطر: قاتل الله من وضع هذه الخرافة. وإني لأشم من بين سطور هذه التعليقات الذهبية أن كاتبها لا يحمل للخطيب حشد هذه الأكاذيب لكنه ما أراد أن يسير على طريقته في التعامل مع عظماء الأمة بما لا يليق ذكره ولا يؤمن وزره.
خامسأً: خص الامام الذهبي جهود الامام أبي حنيفة في أداء الحديث النبوي الشريف بعبارات يفقهها كل من مارس أسلوبه ومنهجه فقد قال : ((حدث عنه خلق كثير))، فهذه الكلمات الأربع تتهاوى عندها التهم الباطلة والمزاعم الجاهلة فهو لم يقل – أخذ عنه – ولا – تعلم على يديه – ولا – تفقه به- ولكن – حدث – ليلقم من يشكك بمنزلته في الحديث حجراً، ولا يبقي لدعواه الكاذبة أثراً ثم قوله – خلق كثير- يعطي صورة مشخصة للامام وحوله الناس بجموعهم الهائلة قد نزحوا من كل فج عميق لينالوا شرف التلمذة الحديثية على امام الدنيا في ذلك الزمان أبي حنيفة النعمان ثم ينتقل بعد هذا ليورد مصدره في أسماء هؤلاء التلاميذ فلا ينتخب كتب طبقات الحنفية أو الفقهاء ولكنه يقول : (( ذكر منهم شيخنا أبو الحجاج في تهذيبه هؤلاء على المعجم )) وشيخه أبو الحجاج هو الإمام المزي ، وكتابه هو – تهذيب الكمال في أسماء الرجال – يعلم كل مشتغل بعلم الحديث إنه المرجع الأول في بيان أسماء الشيوخ والتلاميذ من المحدثين ،  ولا يحق لأحد أن يتجاهله في هذا المقام ، واللافت للنظر أن أبا الحجاج أختار ثمانية وتسعين تلميذاً من جميع القبائل والأمصار فمنهم الخراساني والنيسابوري والبلخي والترمذي والجرجاني  والرقي والمروزي والأصبهاني والصاغاني والسمرقندي  والمصري والحجازي والصنعاني والكوفي والبصري  والواسطي ، ومنهم المجلي والعنزي والعوفي والطائي والتميمي والنخعي والحماني والتنوري والقرشي والعنقزي والقرني والعنبري والشيباني والوهبي والأنصاري والسدي  والفزاري والسكري .
وكل هذه الأنساب إلى القبائل والبلدان أثبتها المزي ومن بعده الذهبي ليقطع ألسنة القائلين بإن بضاعته كانت مسجاة في الحديث .
والأهم من هذا كله إن الأعلام الذين نالوا شرف التلمذة على يديه ، وحدثوا عنه – والتحديث أمانة لا يقوم بها إلا اهلها – هؤلاء النخبة برآء مما نسبه الخطيب البغدادي إلى قسم من أكابرهم في أسانيد مطعون فيها أنهم جهلوا أبا حنيفة في السنة وعلومها فوصفوه بأوصاف تخجل الأقلام من تسويدها وترصيفها فلعمري كيف يحدث اولئك الأئمة المشهورون عن رجل يشككون بعدالته وضبطه ، وبه يغمزون ؟ أيعقل أن يحدث عبدالله بن المبارك عمن ينقل الخطيب البغدادي انه قال فيه : ((أضربوا على حديث أبي حنيفة)) ، أو قال: (( كان أبو حنيفة يتيماً في الحديث))، أو قال : (( من كان عنده كتاب حيل أبي حنيفة يستعمله ، أو يفتي به فقد بطل حجه، وبانت منه أمرأته، فقال مولى ابن المبارك : يا أبا عبد الرحمن ما ادري وضع كتاب الحيل إلا شيطان، فقال ابن المبارك: الذي وضع كتاب الحيل أشر من الشيطان)).

وهل يحدث أبو أسحاق الفيزاري عن أبي حنيفة وقد ساله يوماً عن مسألة فأجاب فيها : فقلت له: إن هذا يروي عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فيه كذا وكذا، فقال: حك هذا بذنب خنزير، أم هل يصدق أن يحدث علي بن عاصم عمن يقول فيه- بزعم الخطيب- حدثنا أبو حنيفة بحديث عن النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: لا اخذ به، قلت: عن النبي (صلى الله عليه وسلم)؟ فقال: لا آخذ به. أم هل يحدث عبد الوارث بن سعيد عن أبي حنيفة الذي يقول عنه – فيما روى الخطيب - : ذكر لأبي حنيفة قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : ((أفطر الحاجم والمحجوم))، فقال هذا سجع.
وهل يحدث الفضل بن موسى السيناني عن ابي حنيفة وهو القائل: سمعت ابا حنيفة يقول: من اصحابي من يبول قلتين، يرد على النبي صلى الله عليه وسلم ((إذا كان الماء قلتين لم ينجس)).
ولماذا يحدث وكيع بن الجراح عن ابي حنيفة وهو القائل بما أسنده الخطيب البغدادي إليه ((وجدنا أبا حنيفة خالف مائتي حديث)).

إلى ذلك من الأخبار الساقطة التي لملمها الخطيب ونسبها إلى من يشهد الله تعالى انهم بريئون منها قائلاً: ((والمحفوظ عند نقلة الحديث عن الأئمة المتقدمين، وهؤلاء المذكورين منهم، في ابي حنيفة خلاف ذلك، وكلامه فيه كثير لأمور شنيعة حفظت عليه، متعلق بعضها باصول الديانات، وبعضها بالفروع، نحن ذاكروها بمشيئة الله، ومعتذرون إلى من وقف عليها، وكره سماعها، بأن أبا حنيفة عندنا مع جلالة قدره أسوة غيره من العلماء الذين دونا ذكرهم في هذا الكتاب، وأوردنا أخبارهم، وحكينا أقوال الناس فيهم على تباينها)).
والحق أن هذا التصرف مذهل غريب، فلم الانشغال بكذب الطاعنين ؟ ثم الأعتذار عن هذا الخطأ المبين؟.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق